احنه السبب يا أحلام
عبد الحميد الصائح
أينما تحط (أحلام عَرَبْ) تجد المسرح ، يصبح المكانُ مأهولاً بالأرواح والناس حتى وان كان فارغا ، المساحات عظيمة فخمة وإن كانت بسيطة متواضعة، والناس منشغلين بالحياة حتى وإن كانوا جَمادا ، المناخ موسيقى مهما كان وجوماً ، والخير كل الخير وإنْ كان قحْطاً ، أحلام عرب تستفزك في غيرتها على الفن ، وتُغّير نظرتك عن التمثيل والاخراج والرقص والموسيقى بعد أن أصبح ماركة مسجلة للفاشلين وتجار التذاكر وقناصة فرص المتعة العابرة .
تعرفت الى الفنانة أحلام عرب مطلع عام 1984 وانا طالب في المرحلة الثانية من اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد ، وكان اسمها ساطعا في اداء أدوار لمسرحيات عالمية شهيرة اثناء دراستها او بعد تخرجها وانتقالها الى المملكة المتحدة بداية الثمانيات ثم عودتها ثانية الى العراق ، أعمالها واثارها تتداول في الاوساط الفنية بشكل يدعو الى الفضول في معرفة هذه الساحرة عاشقة المسرح والمجنونة به، حيث برعت مخرجة في الانسان الطيب لبرخت والصوت الإنساني لكوكتو وممثلة كبيرة في اعمال خالدة مثل الاله الحاسبه لالمر رايس والإسكافية العجيبة للوركا وفي اوديب ملكا لسوفولكيس وعطيل شكسبير وفينوس واودينيس لشكسبير ايضا، وصندوق الرمل لالبي وتسمون اكوتاجاوا والباب ليوسف الصائغ ودزدمونه لسعدون العبيدي وطرطوف لموليير
سيرة لاتتوقف من نبش النفس البشرية واشاعة المسرح كالهواء والخبز وهي تقدم مسرحا للايتام ومسرحا للطفل ومسرحا للفرجة ... معلمة واستاذة ورفيقة لجميع الاطفال والمبدعين في العراق والعالم العربي . عام 1986 حصل أن كتبتُ عملا مسرحيا اسمه ( الخروج دخولاً) فاجتمعنا أحلام وصديقانا المشتركان الفنان الخالد عبد الخالق المختار ، والمبدع حكيم جاسم وأنا . كنا شبّانا مندفعين وكانت أحلام تدفعنا لمزيد من التصعيد والتمرد على مانرى، وانجزنا ذلك العمل الذي عرض عام 1987 في مهرجان المسرح التجريبي الذي اقامة منتدى المسرح بعد انتقاله من دائرة السينما والمسرح الى منطقة السنگ كاول مهرجان باشراف الفنان الكبير والمربي الحالي مقداد مسلم. حيث قام المختار باخراجه وادى ادواره حكيم واحلام ببراعة شهد لها كبار الفن المسرحي العراقي وحصد جائزة افضل عمل في المهرجان .
لا اعرف لماذا استذكر ذلك بحذر أمام ماتفعله احلام عرب وامامها هي شخصياً ، جهودها لبعث الحياة في المسرح من العدم تحمّلنا ذنوبا كوننا هجرنا هذا الفن الرفيع لصالح الحياة النمطية المعتادة المملة التي لا روح فيها .
ذكّرني هذا وانا افاجأ يوم الثلاثاء الماضي بدعوة كريمة لارى ما قامت به احلام عرب ، وهي تخرج عملا مسرحيا في الشتات – في المنفى – في لندن – عملا عراقيا صرفا وبممثلين يشكلون كوكبة من الامل والاصرار على حياة اعمق من الحياة التي يرونها.. ينتجون عملا يتحدث عن الازمة العراقية المعقدة في السياسة والمجتمع والحياة ، جدلية النتيجة والسبب ، مسؤولية الانهيار وغياب القدرة على التوازن الاجتماعي ، دور الانسان في صياغة ذاته ، وانهيار الانسان امام جبروت السلطة والخوف وتاثير الدعاية ، شيزوفرينيا العادات ومقالب العقائد وفوضى الرغبات والمصالح التي تذل الانسان وتعقم قدرته على التغيير ، لتجعل الشعب المستكين بمواجهة ذاته ، الذي يكابر في التبرير وتكرار الخطأ وسوء التقدير والاختيار والتهرب من المسؤولية ليقول اخيرا بعد ان تحاصره افكار المسرحية .. نعم .. نعم .. (احنة السبب ياحميدة) .. (احنة السبب يا أحلام) . احنة السبب ايها الطاهرون منتجو هذا العرض الغني الجميل .. كل ذلك عبر مشاهد ذكية واداء متقنٍ فخم بادوات بسيطة متاحة وقاعة متواضعة وفرها لهم بيت العراقيين المنتدى العراقي يتحرك على أرضيتها نجوم كبار باسمائهم وأرواحهم ووطنيتهم وتواضعهم، كفاءات كبيرة ، الكاتبة المبدعة الكبيرة حميدة العربي مؤلفة العمل الذي جاء بلغة جذابة وصياغات شعرية بسيطة عميقة حكائية لايديرها الا ماهر في الاتجاهين الشعر والدراما، والفنان الممثل البارع المتألق غالب جواد ، ومفاجاة العرض الشاعرة الكبيرة ريم قيس كبة ، التي قالت لي ، ان احلام عرب اعطتني مفتاحا اخر للفردوس بهذه الفرصة ، الملحن الكبير ، وصاحب الصوت العذب والالحان الشهيرة ، تايبين – ولو تزعل - لياس خضر واغاني قحطان العطار ، الفنان نامق اديب الى جانبه الموسيقي الشاب مازن عماد والتشكيلي عماد الراوي والطبيب علي عاجل والاعلامية ميديا وسالي الدليمي وعامر العراقي والناشطتين البارزتين فائزة المشاط وياسمين طحين ، ومرام المثابرة طالبة الدراسات العليا في جامعة كارديف التي تقطع مسافات طويلة وتدغه تذاكر مواصلاتها المكلفة كي تحضر تمرينا في هذه القاعة ، وحسن ومريم ومروة ومعهم من الصومال عبد الله احمد ومن انكلترا تاشا التي تؤدي دور الزوجة الرابعة الانكليزية التي يتزوج منها غالب جواد لتتعقد حياته كما يروي العرض، مثابرون متطوعون اخرون وراء العرض شروق العاني للادارة وللديكور وملحقاته هشام رزاق واصيل حبيب وشفاء جبر ، وللاعلام ياسر الزهاوي.
هذا العمل الذي ضم كل هذه الجهود والاسماء ، والذي اشتعل بهذه الروح المتوهجه ، قيمته في المبادرات التطوعية والبذل الشخصي الكريم للقائمين عليه من أكواب قهوتهم الى مواصلاتهم ليجعلوا منه تجربة نادرة ، عملا عراقيا جريئا محضا في المنفى، بنَصّ وموسيقى ورؤيا أخراجية فائقة ، وعرض عظيم ،لايبغي منه منفذوه جزاءً ولاشكوراً فعرضوه للناس على (مسرح تشيلسي) في العاصمة البريطانية مقابل تذكرة لايتعدى سعرها ثمن سندويتشة!
No comments:
Post a Comment