#الاستوديو_التحليلي_المسرح_العربي الانتظار الممتلئ راديكاليــــة الموقـــــف في حيـــاة سعـــيدة : د. حسن عبود النخي
يقدم الكاتب ( علي عبد النبي الزيدي) الإنسان، وهو يتجاوز حدود التكرار . إنّه ينفي أن يكون متشابهاً أو متكرراً ، ويقدم في سبيل ذلك تقنية في كتابته تتخطى ما يسمى درامياً بــ – الحدث الاسترجاعي إلى الحدث الاستشرافي.
هي رؤية مُفارقة ( جديدة) في تقديم النص ، المُنطلق من التأمل ، الذي لا يعرفُ الركود ويمتثل للمحاسبة والتدقيق في المواقف، وعدم الانصياع للتكرار.
يضعُ المحركَ للفعل طاقةً لا واعية في الإنسان ، إنّها طاقة عمياء – كتلك الإرادة الشوبنهاورية – التي تأخذ التسمية ذاتها ( الإرادة العمياء) ولكنَّ الزيدي يجابهها – بوعي كتابي كبير- في أداء مهمة الكتابة المُفارقة ، ليكرس في كل لحظة ما يُلفت إلى ما أنتجته ( الإرادة العمياء) ويفصح عن ذلك بما يقاومها بحدثه التقدمي الاستشرافي في اختلافه عمّا طرحه (أبسن) في محركه الخاص بالحدث الاسترجاعي ، وهو هنا لا يذهب إلى الكشف عن الحدث الراهن من زاوية نتاج الماضي له كما اعتمد ذلك أبسن ، ومن قبله (سوفوكليس) ، بل يعمل على الكشف الراهن عن المستقبل الذي يتأسس بسلطة الحدث الراهن وتكوينه له .
وبذلك يضع الأحداث في قالب محكوم التأمل، ومكاشفة الفعل الراهن بسلبياته ومغباته ونتائجه .
لابدَّ من الإشارة في هذا الموضع ، إلى كون ثيمة ( الانتظار) قد برزت بشكل تطوري في نص الزيدي هذا ، فعلى مستوى مرصود برزت هذه الثيمة في نصه ( ميت مات) ولكنها كانت ، تذهب إلى الكشف عن إرادة ميتة ، واستنجاد أبكم ، وعن استسلام فظيع يضع الكائنات في متحف التاريخ الذي يعني انفصالها التام عن الزمن وعدم دخولها الحياة تارة أخرى ، وانفصالها عن كل ما يمثل طاقة الإنسان . سواء بعدم حركتها بشكل تام ، أو بانتظارها لمخلص لها من ميتتها هذه.
إلاّ أنّ الانتظار هنا في ( حياة سعيدة) يقترن بكبح الإنسان لطاقة الفعل الكائنة فيه ، وهي طاقةٌ تنتجُ عنها الحياة.. ولكن التأجيل والانتظار يأتي من عدم توافق الظروف مع هذا التكوين الذي لابدَّ أنْ يوضع في محله المتوافق معه بشروط الحياة والكرامة وصناعة ما يسمو بالإنسان ، وسلامة وجوده ، لا ما يهين كرامته ويفترس حياته وينهيها.
لذة الفعل كبيرة ، وإغواؤها لا متناهٍ .. ولكن النتائج التي يجعلها المؤلف مرافقة لطاقة الفعل هذه ، واستعراضها ، كلما وصل الفعل الإيروسي لذروته ، تعمل على بث نفسها بإقناع كبير ، يتوافق معه ، ويتفاعل معه ، حتى من هو خارج دائرة الفعل هذه ، وهو هنا ( العريسُ اثنان ــــــ 2) الذي هو بانتظار الخوض بذات الفعل المؤجل ، حيث أنّ عروسه لم تزل في صالون التجميل وينوي الذهاب لإحضارها إلى غرفة الزوجية التي اقتحمها فرحان (العريسُ واحد ـــ 1) وفرحانه (عروسته) ، بعد هروبهما من قنابل الحرب ولجوئهما إلى ملاذ آمن ، لم يكن سوى هذا المنزل الذي يكشف فيه المؤلف عن أجواء الدمار والخراب المتولدين عن ضغط الحرب وشراستها .
يبقى الحدث الاستشرافي ( الاتقاد الذهني) .. لدى (الزيدي) هو المسيطر ، مع ما تحمله الشخوص من طاقة أخاذة للفعل ، وهو يحمل مفارقة درامية تشحن النص بطاقة الإيقاع اللاهب ، الذي يتوافق مع تلك الطاقة الباطنية – الطاقة العمياء بإرادتها العمياء – التي لا تنتصر على طاقة الوعي التي تُفصح عن نهاية لا تقبل بمسمى حياة دون شكلٍ حقٍ يعبّرُ عنها ويوجدها .
من الزاوية الإخراجية يكمل ( كاظم نصار) هذا المسار التوتري الكبير ، بفلسفة إخراجية ، تسعى للتساوق مع ما جاد به المؤلف . وهو يعمل على تقديم معالجات تُهدىء من هول الفكرة الفلسفية الضاغطة على الشخصيات ، ببثها عبر الممثلين بإحالتها من منطقها المأساوي إلى تصديرها عبر روح كوميدية تُبْقي شكل الحياة رغم فداحة الموت .
فكيف لهذا الممثل أن يتبنى المختلف لا السائد؟! . في تقديمه للممتنع ،والمقموع والمسكوت عنه .
هكذا تشتبك العوالم الإخراجية للتعبير عما هو مسكوت عنه ، فهناك عالم الإحالة إلى الواقع المرير ، الذي شكّل له تأملاً خاصاً على خشبة المسرح ، وهناك عالم خارجي يتّصلُ بالرقيب ، كما جسّده الممثل ( علاء قحطان ) والممثلة ( هديل سعد ) ، وهناك عالم المحاكمة العقلية الذي عبرت عنه تلك الطاولة التي احتلت منطقة يسار المسرح .. ــ عوالم واقعية بسيطة ولكن أداء الممثل وحمولاته الفكرية أعطاها معنىً كبيراً .
المباغتة الأدائية ، التي تكاد تكون ليست أمراً يسيراً تجلت في أداء الممثلين (حسن هادي) و ( لبوة عرب) إذ ينتقل الأداء التمثيلي من مرونته ولعبيته الملهاوية ، إلى انقضاض مأساوي واضح عبر مباغتات متوالية ، وهذه المباغتة والتلون السريع اللحظوي يقتضي من الممثل تلك التنقلات الأدائية السريعة .
وفي الوقت ذاته هناك آثار واقعية لما يتفوّه به الممثل مبصورة ومجسدة عبر الديكور المسرحي كتلك العيارات النارية التي طالما امتلأت بها ذاكراتنا ونحن نبصر جدران مساكننا . حيث نجدها احتلت مكانها ــ هناـــ في باب المنزل .
الموضوع مأساوي كبير ، والأداء التمثيلي يسعى لبعث طاقة الأمل ، وهو يتغلب على طاقة اليأس والضعف التي تعصفُ بها جملة من العروض المسرحية .
يفيدنا العرض في تبيان أمور مهمة، هي :
كيف يمكن أن يقوم الفكر الإخراجي بمهمة قول ما لا يمكنُ قوله ؟
وكيف يمكن للممثل في أدائه تقديم الممتنع من البوح بجدارة وتمكن ؟
وكيف يمكننا مجابهة ذلك الإحباط الكبير الذي تلونت به تجاربنا وتصريحاتنا
بمجابهٍ موضوعي يجعل عقولنا نبهة فاعلة ، ويجعلُ في الحياةِ لوناً على الرغم من قتامة الأشياء؟
إنَّ المتضادات التي زخر بها العرض ، شكلت دينامية الصورة التي تأسس عليها العرض المسرحي ، حيث الالتفات الدقيق من المخرج إلى توطيد روح المتناقضات وإحيائها بوصفها العصب الفلسفي الذي بنى المؤلف عليه نصه الذي يمتاز بهدم السائد – كما هو شأنه على الدوام، وهكذا كانت المهمة التي على الممثل أن يضطلع بها في الخوض في مثل هكذا حالات متنوعة ، أن ينتقل انتقالاً نقياً خالصاً من حالة إلى أخرى واجتهاد الممثل الكبير في أنَّ هذه الحالات ينقضُّ بعضها على البعض الآخر باستمرار ، وهنا تكون عملية إفراد الحالة وتجسيدها المباغت ، بما يقتضي حنكة الممثل ومرونته الكبيرة وتمكنه الاجتهادي في إيفاء كل متغير مباغت حالته المقنعة والمؤثرة في تشكيل الخطاب العام ، ما بين لغة مجهورة ، وصمت معبر ، وإيماءات ناطقة ، وسعادة وألم ، وحياة وموت . ما بين أداء جاد وأداء هزلي ، وملفوظ دارج وآخر قياسي فصيح ، بين وعي وتمركز عقلي ، وبين غياب عن الألم ، وانسحاب لعالم طافح بالرقة والشبق . بين دخول في عالم ممتلىء بجثث الموتى ، وبين سرير طافح بالرغبة المؤجلة ــ المقموعة.. كل هذه المتضادات اجتمعت في الأداء التمثيلي الذي قدمه الفنان (حسن هادي) والفنانة (لبوة عرب) .
وكذلك يُلاحظ سيادة المتضاد في الفكر الاخراجي ، عبر تكريس وجود عالم الحياة المُناقض لعالم الموت ، وقد كان تركيز المخرج في ذلك على (السرير) الذي شكل حمولة دلالية متجددة في تصدير المتناقضات ، فهو دلالة الخصب ومرتعه ، لكنَّه في الآن ذاته تُحملُ منه جثث القتلى ( بسام) و( باسم ) و(باسمة) أسماء وضعها المؤلف بقصدية مناقضة أيضاً ، في اجتماعها بجوار الموت وتجسيدها لصورته ، وفي كشف متحققاته .
ثمَّ يكون ختام العرض ، حاملاً لمفارقة كبيرة تقرأُ المتناقضات قراءةً واعيةً ، إذ تدخل الممثلة ( هديل سعد) لتوقف حركة الممثلين، وتعلن نهاية العرض بإظلام دامس بعد أن تقرع أجراس الإعلان التي تسبق هذه الأفعال ، دلالة على أنَّ العرض داخل العرض .. الموافق للمسرح داخل مسرح ، كما عمل عليه المخرج (كاظم نصار) قد انتهى ، وسيتم العودة إلى العرض الأساسي الذي هو قائم لا ينتهي ، تلك النتيجة العامة للمجانين المكبوتين ، الذين يعيشون عالمهم المنفصل عن الحياة ..
هم يُودعون في المستشفيات ــ برؤية المخرج ــــ لأنَّ الحياة لا طاقة لها على الحقيقة .. ولابدَّ لهم من العودة إليها لأنَّ لا أحد سيسمعهم ، لذا ففي نهاية العرض كان إعلان النوم وانطلاقُ صوت الشخير عالياً ..
وكأنّ خاتمة العرض تقول :
إنّ الوعي جنون ، وأنَّ حكمة المجانين لن تحكم العقلاء، وهم منغمرون بنومهم العمي
No comments:
Post a Comment