التجربة بدأت عندما ارسل في طلبي وزيرالصحة وكان وزيرا للعمل والشؤؤن الاجتماعية (وكالة) د- اوميد مدحت وطلب مني ان أخرج عملا لأطفال دور رعاية الدولة بشكل تطوعي.
اللقاء الاول, تزاحم عددا كبيرا من الاولاد والبنات وبلهفة كبيرة لتسجيل اسماءهم بغية الاشتراك بالمسرحية، حتى اني تفاجأت بالامر وغمرتني سعادة لاتوصف.
كان اللقاء الاول للتعرف وجس النبض بغية اسناد الادوار وتوزيع المهمات.
لكن بعد انتهاء اللقاء الاول تلقيت صدمتي العاطفية الاولى، جاءت المشرفة تعلن انتهاء المقابلة ووجوب العودة الى مقراتهم وهنا بدأ البكاء وتصاعد ونشج البعض بحرقة وانا في حيرة من هذا التعلق المبكر بالمسرح حتى قبل ان نبدأ التمرين الى ان تبينت الامر وهذه المرة انا التي بكيت وعلقت في صدري غصة مازلت سارية المفعول كلما تذكرتها.
تبين ان السبب الرئيسي لالتحاق الاطفال بالمسرحية هو ان هناك اخوة واخوات لايسمح لهم بالاختلاط في كل الاوقات فهناك دار للبنات واخرى للبنين وكانت المسرحية فرصة للقاءهم وقضاء اطول وقت ممكن مع بعضهم البعض.يالهي ماذا افعل؟
وكعادتي في كل تجاربي المتشابهة تحولت الى مرشدة تربوية وبدأ تعارف وددت ان لاينتهي..
اختيار النص الملائم.
كان عندي اكثر من نص مسرحي لعالم الاطفال ولكن كان علي اختيار مايلائم العدد الكبير من الأطفال الذين تقدمو للأشتراك بالمسرحية وبعد بحث سريع وتقليب في الكتب والاوراق عثرت في مكتبتي وضمن نصوص منهجية قديمة مطبوعة للمدارس على نص النهر والبستان للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فأحببت الفكره التي هي نهر في بستان لايستطيع الجريان بسبب الطمى والغرين وتشاهد الطيور ذلك فيتعاونون على فتحة.
(وجدتها بستان يعني مكان يسع الجميع)
وبدأت الرحلة المسرحية التي استهلها ولد من الدار كان اطولهم عودا لايبدو عليه امتلاك مهارات تذكر في مجال الدراما لكنه كان متحمس جدا وسألني بجدية (ست راح انسوي مسرحية وتنجح؟)فأجبته (اي انشاء الله)
واستمر يسأل هذا السؤال عقب كل تمرين وكانت اجابتي هي نفسها.
كانت تماريني تبدأ بالسماح لهم بتبادل الاحاديث وحرية الحركة وكان اللغط يصل الى الادارة التي دائما ما ترسل احدهم للاستفسار عما يجري مطالبين ايانا بالهدوء فأخبرهم انه التمرين,ولكن تمريني الفعلي يبدأ بعد ذلك عندما اجمعهم واقول هل اكتفينا ؟ هل نبدأ العمل على المسرحية ونبدا التمرين الذي كنا نتمتع به جميعا.
اعدادي المسرحي.
اعددت العمل وطوعته ليلائم ماكان يشغلنا تلك الفترة مسببا المأ نفسيا للجميع وهو الضربة الشرسة التي تعرض لها العراق عندما تكالبت عليه ثلاث وثلاثون دولة بحجة وجود أسلحة دمار شامل .
الاعداد كان بأسلوب بسيط وبرمزية عالية بعيدا عن الاجواء السياسية، فالبستان فيه الجميع الانسان والنبات والحيوان يعيشون في سلام ووئام الا أن ثمة ضفادع لاتحب جريان النهر لانها تريده مهمل وأسن فتتفق مع غرباء اشرار لتدمير البستان واعاقة النهر عن جريانة.
وفعلا تم قصف البستان عندما كان الجميع نيام في تمام الساعة الثانية والنص ليلا.
وبعد أن تذبل الورود ويحتضر من في البستان يقرر الجميع التعاون وتنظيف النهر ليعاود جريانه.
اوعزت لجميع العاملين بعمل حلقات تبدأ من اعلى المسرح وتمدد الى القاعة والكل يحمل انقاض النهر ويناولها للاخر ليتم التخلص منها واخيرا ينهض النهر الذي كان شابة جميلة وتبدا الجريان على شكل ركض من اعلى المسرح لأرجاء القاعة مع موسيقى مفرحة فتندحر الضفادع.
كنت لاأود ان نعرض ابدا فالعرض يعني انتهاء التجربة التي كنا سعداء بها فالتمرين عندي ابوابة مفتوحة وهناك دوما وافدين جدد،
ولكن حدث ما اوقفني عن العمل والتمرين لوقت ليس قصير حتى كادت التجربة تلغى،
توفيت امي فجأة وانقلبت اموري الحياتية والاجتماعية راسا على عقب وتعرضت لصدمات اخر امتصت كل طاقاتي الايجابية وطوقني الأحباط فأنزويت جانبا لولا وجود الاصدقاء والأحبة الاوفياء.
السيد الوزير – اوميد مدحت ارسل لي برقية تعزية ونائبة الشخصي ليحضر الفاتحة التي بأنتهاءها توقف كل شئ لبضعة اشهر.
عاد مرسال الوزير مجددا بعد حين مستفسرا عن المسرحية وامكانية اكمالها وكأني كنت بحاجة لهذا الطلب كي اتحرك مجددا وكنت قد استعدت شيئا من معنويتي وحيويتي فبدأت العمل فورا.
وهذه المرة التحق بي قسم من اعضاء مجموعتي المسرحية لمسرح الطفل التي كنت قد كونتها وتركت بصمتها في الساحة وعلى رأسهم المؤلف وفاء عبد الوهاب(لروحه السلام)، الذي كتب لي كلمات أغان جميلة تناسب الحدث، وقام بتلحينها عدنان مهدي (ساعدي الايمن في كل تجاربي السابقة لمسرح الطفل يساعده في ذلك حيدر صدام وعلي كريم).
والتحق بنا علي الفنان علي عبد الستار والذي كنا نسمية (علي الضروري) لشدة اهميتة فوجودة يعني سينوغرافيا متكاملة.
بدء علي الضروري بتصميم ملابس مبهرة وغاية في الروعة وبدأت جمعية الامل للصم والبكم بتنفيذها بتقنية عالية.
والاطفال كانوا سعداء جدا بما ينفذ ولعل اسعدهم تلك الطفلة الجميلة التي لشدة ترافتها ورقتها كتبت لها دور فراشة واسميتها (بالفراشة) وصمم لها زي من ابدع مايكون،
قسم من الأطفال كانو يبقون في الدار فلا احد ياتي لأصطحابهم عندما يقدم بعض الاباء والامهات لأخذ ابناءهم ايام الجمع والعطل فنستثمر ذلك بالتمرين وتطوير الشخصية،حتى ان ابنتي التي كونت صداقة جميلة مع احد الفتيات طرحت علينا فكرة تبنيها وجلبها للعيش معنا.
مع اقتراب العرض حدث مالم يكن في الحسبان، اختفت( فراشتي) لقد جاء اقاربها واخذوها من الدار وبقي دورها شاغرا، ففكرت في ابنتي الصغيرة التي بقيت بعيدة رغم انضمام غالبية زملائها من مسرح الطفل، فاسندت لها الدور الذي حفظتة بلمح البصر وكانت في اعلى درجات التشوق ليوم العرض كي ترتدي ثوب الفراشة الزاهي.
لم يبقى الكثير لنعرض العمل وتحول الجميع لخلية نحل الكل مستعد والفتى الطويل صار سؤالة اكثر الحاحا مطالبا بأجابة (ست راح نعرض المسرحية وتنجح؟) وقبل ان اجيبة هذه المره فجأة علا صراخ وتقافز الأطفال مرحبين ماذا حدث؟
لقد عادت (فراشتي الحلوة) .وبقدر فرحتي بالعودة كنت افكر بالمشكلة الجديدة ماذا سأفعل هناك واجب اخلاقي يحتم على سحب الدور من ابنتي وارجاعة لطفلة الدار وهناك محنة عاطفية غاية في الصعوبة مع طفلتي الحساسة التي أختفت من المشهد وكنت اجول بعيناي بحثا عنها بين بقية الاطفال فلا اجد لها اثرا، ترى اين اختفت هل انزوت باكية في ركن ما بسبب الموقف.
وانا في خضم هذه الافكار حدث مالم اكن اتوقعه.
ظهرت ابنتي لبوه من بين الكواليس تحمل ثوب الفراشة وتقدمت بكل تلقائية تليق بعظماء المسرح لتعطيه الى زميلتها الممثلة
راقبت المشهد بغشاوة لان دموع السعادة حضرت لتشاهد معي هذا المشهد الذي كان مسرحية متكاملة وكان درس من مخلوقة صغيرة لاتعرف كبر الموقف الذي عملته.
وعرضت المسرحية بحضور لافت لأكثر من ستة وزراء والكثير من المدراء وكوادر العمل والشوؤن الاجتماعية، كان السيد الوزيرد- اوميد مدحت حريص على استدعاءهم ليريهم منجز دور رعاية الدولة وكان جدا فخور بذلك.
وتألق الاطفال وبرعوا في اداء ادوارهم وصفق الجميع للخاتمة فرحين بالنهر الذي انساب الى القاعة على شكل شابة جذلة تركض راقصة بين الجمهور، وانا اركض بين الكواليس اراقب اللحظة كي لاتفلت وخلفي يركض طفل الدار الطويل هلعا (ها ست ست نجحنا)؟
وخرج الاطفال للتحية واستقبلوا بتصفيق يليق بجهودهم والكل كان منتشي للنهاية السعيده بأستثناء واحد كان يهمني رأية جدا ولكنه اختفى ولم يصعد لتهنئتي او تهنئة الاطفال مع العلم انه عملة او على الاقل فكرتة واقصد الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد فقلت ربما انشغل مع بقية الحضور او جمهوره مما اعاقة عن تقديم التهنئة فقررت الاتصال به لاحقا.كان جوابه صدمة غير متوقعة.
عندما اتصلت بالاستاذ عبد الرزاق كنت جدا سعيدة وفخورة بالمنجز وطبعا توقعت منه المثل الا انه فاجأني بهجوم حاد وكان عصبي جدا، قال لي ماذا فعلت؟ لقد سببت لي احراجا امام الوزراء حتى ان احدهم سألني منذ متى غيرت نهجك؟ لقدحولتي الاطفال الى دراويش يصلون للسماء طلبا للماء
تنرفزت وقلت لة بعصبية مماثلة لقد طلبت منك الحضور في الجنرال بروفة ولكنك قلت لي انك تثق بي ثم ماذا اذا صلى الاطفال للسماء؟ لماذا لاتخبر وزارة التربية بحذف درس الدين؟ تشنج الموقف بيننا واعلن براءته من العمل محملا اياي مسؤولية تشوية الفكرة.
والمشكلة انه كتب هذا التنصل في جريدة بابل وقد قيل ان من يكتب علية في هذه الجريدة يتعرض للتحقيق وقد يسجن في الرضوانية وهكذا بقيت قلقة لأسابيع متوقعة امرا سئ قد يحصل ولكن الحمد لله مر الامر بسلام.
بعد زمن قررالمكتب الاعلامي توزيع هدايا للعاملين وكانت دشايش وبجامات بازه صنع معهد الأمل للصمم والبكم وقال لي المسؤول الاعلامي انهم خصصوا دشداشة بازه للاستاذ عبد الرزاق عبد الواحد قلت لهم لا اعتقد انه سيقبل انه الشاعر الاول ومستشار مهم فقال المسؤول بثقة لا اكيد سيقبل وسيفرح بها.
ولا اعلم هل ارسلت له الدشداشة البازة فلم يتسنى لي ان اسأله عندما التقيتة بعد زمن ورحب بي كأن شيئا لم يكن .
خلاصة للتجربة.
1-ثلاث وعشرون طفلا وطفلة اعتلو المسرح لاول مرة ليقدمو عرضا مسرحيا متكاملا اشاد بة الجميع.
2-على اثرها استحدث مركز للنشاط الفني والثقافي مرتبط بديوان الوزارة.
3- شكلت فرقة مسرحية باسم فرقة مسرح بلاط الشهداء خاصة بالاطفال.
4- تجهز بالازياء من جمعية الصم والبكم والديكور من معمل لعب الاطفال.
5 توفر سيارة كوستر لغرض تنقلات الفرقة.
حصلت على كتاب شكر وتقدير من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
بعد ان انتهت التجربة ومضت عدة سنوات على ذلك رن جرس منزلي فخرجت لأجد فتاتين جميلتين ابتسمتا حين رؤيتي وقالت احداهما فرحة (ست عرفتينا احنا بنات الدار كلش حبينا المسرح ونريد ندرس فنون.. حبينا بس نسلم عليج) وذهبتا تاركتان ابتسامة على وجهي لاتذبل ابدا.
No comments:
Post a Comment