الأحد، 18 أغسطس 2019

"أنا أدرس مسرح، وليس جاسوسية!"


 
احلام عرب (معهد الفنون الجميلة، بغداد) السبعينات

"أنا أدرس مسرح، وليس جاسوسية!"

(محاولة إخراج مسرحية لسجن أبو غريب)

لندن، أحلام عرب

في عام 1977، وفي خطوة لاعدادنا كمخرجين للسنة الدراسية الخامسة والاخيرة مسرح، طرح علينا الاستاذ بهنام ميخائيل ونحن في المرحلة الرابعة  مشروعاً رائعاً؛ إخراج مسرحية تحمل أسم معهد الفنون الجميلة، على ان يكون الدعم والتمويل  من الجهة التي ستتولى تبني العمل.

كان علينا كطلبة التوجة لخارج المعهد لأيجاد من سيرحب بالفكرة.

كان منا من تحمس للفكرة، وآخر من وجدها عبئاً مضافاً لمسؤولياتة الكثيرة من عمل صباحي ودراسة مسائية  ومسؤليات أخر.

 الغالبية فكروا بمقرات عملهم الصباحية لسهولة التنقل والحركة والدعم. أما انا التي احاول دائما وضع حجرة رصينة الى منجزي والتفوق على زملائي،  فكان عليّ ان افكر بطريقة لاتخطر على بال احد. ووجدتها (سجن ابو غريب).

 ومما شجعني على ذلك، أن إحدى صديقاتي كان عندها قريب يشغل منزلة جيدة لدى الدولة.

ذهبت اليها وعرضت فكرتي، راجيةً منها أن تساعدني. وبعد تردد، كونها لاتريد التورط  لأن قريبها رجل حزبي وبعثي ملتزم، من ناحية، ومن ناحية أخرى، كوني غير منتمية، وولائي موضع شك، وملون بصبغة حمراء اسبَغها علي الاخرون، مما وضعني تحت عين المراقبة والخضوع الدائم لأستجوابات المسؤول الحزبي، سواء في منطقة سكني او مقر عملي.
المهم، بعد تردد، ولانها تعرفني جيداً، وافقتْ أن تساعدني ورتبتْ لي موعداً مع قريبها لأصطحابي الى سجن ابو غريب.

وكان ذلك، وأخذت إجازةً من دائرتي الحكومية.

وفي الموعد المحدد، وجدت سيارةً بيضاء صغيرة، يجلس في المقعد الأمامي قريب صديقتي، إلى جانب رجل اخر يجلس بهيبة خلف المقود، ويبدو أعلى مرتبة من واسطتي، او هكذا خُيّل لي.

سلّمتُ بودٍ والزهو يملئني لأني في طريقي لتحقيق حلم سيدهش الأساتذة وبقية الطلبة. لم يجري اي حديث بيننا اثناء الطريق، ولم يكن معي اي مفتاح لبدء محادثة مع الرجلين لمظهرهما الجاد والحزبي، فأكتفيت بالانشغال مع أوراقي وأقلامي .

وصلنا السجن.

واستُـقبل الرجلان بإحترامٍ يليق بهما. دخلا الادارة، وعرفوني بموظف مسؤول ليتولى بقية المهمة. رحب بي  الرجل الجديد واصطحبني لبدء جولتي .
شرح لي ان السجن مقسم الى احكام خفيفة واخرى ثقيله.
سألته ماذا يعني ذلك؟
فقال: الاحكام الخفيفه، بضعه أشهر ويتحرر السجين،  والثقيله سنين طويلة.
فطلبت منه ان يحولني للثقيلة، خشية ان ينهي السجين فترة محكوميتة اثناء التمرين ويخرج! فتردد متذرعا انها مجازفة لأن هناك مجرمين تصل درجة اجرامهم القتل، قائلاً انها مسؤولة لايريد تحملها، كوني غير مؤهلة للتعامل معهم.
رجعنا الى مكتب الإدارة، وشرحت الأمر مجدداً، فتدخل واسطتي بغرض المساعدة التي انتهت بتوقيعي على أوراق تؤكد تحملي مسؤولية اي عواقب او اعتداء غير متوقع، وبأن يكون هناك حارس بصحبتي اثناء التمرين.

اخيراً، دخلت القاعة برفقة المسؤول وحارس.
وجدت رجالاً اشداء بشوارب كثة، مفترشين الارض كطلبة مدرسة، ينظرون لي بعيون كلها فضول واستغراب.
جلبوا لي كرسياً، فجلست.
ساد صمت كسرتة بتحية، وقدمت نفسي: 
 (اسمي احلام، وانا طالبة مسرح في معهد الفنون الجميلة. أريد  تساعدونني في اخراج مسرحية للمعهد انتم ابطالها وكادرها).
ساد صمتٌ للحظاتٍ،  ثم سأل احدهم  (كتبتي مسرحية تلائم وضعنا)؟
فقلت: ( لا ..لأن اذا اني اكتبهه يحبسوني وياكم)، فأنفجر الجميع بالضحك، ورُفعَ الحاجز بيننا  لتنهال علي  الاسئلة. وكنتُ أُجيب بشكل مرح و ساخر لأكسبهم، شارحةً لهم الامر ببساطة، ومحاولةً بنفس الوقت اكتشاف مهاراتهم لتوزيع المهام.
كان بينهم مثقفين ومتفهمين، ولم أرى أي مجرم.

قدم لي أحدهم نفسه على انه قريب لزميل لي وله محاولات في الكتابة، ففرحت واعلنت لهم  (ها قد وجدنا الكاتب).

 خططنا لكتابة المسرحية، وكان هناك شاب في آخر الصف، نهض وقال ( انا نجار والديكور علي).

 بدأ الأخرون  بالتجاوب والاقتناع  بالفكرة، واتفقنا على جدول تمارين والكثير من الامور التي تعتبر اكثر من ممتازه كخطوةٍ أولى.
وانتهى اللقاء الذي استمر حوالي ساعة، خرجت منه وانا في قمه السعاده والتفاؤل. زاد من فرحي ان لحق احد السجناء بالحارس وناوله محفظةً (جزدان ابو النمنم)  كانت من صنعه داخل السجن،  دسها الحارس بيدي فكدت اطير من الفرح............ولكن.
عند رجوعي  مع من توسط لي لتسهيل المهمة حدث ماعكر الجو وقلب الاوضاع رأساً على عقب .
في السياره واثناء الرجوع، قال الرجل المسؤول الذي كان يقود السياره بهدوء، ويجلس بجانبه صامتا واسطتي، قال
( عندك شعبيه ممتازه وتجاوب الجميع معك، وهذا ما سمعناهُ عنك في المعهد ايضاً).
توجست شرا من نبرة صوته ونظرته عبر مرآة السيارة.
أكمل قائلاً: (سنساعدك، نفرغ لك قاعة وثلاثة ايام تمرين بعد الاتفاق مع مدير دائرتك،  وكل طلباتك ستنفذ، ولكن أنت أيضاً ساعدينا).

.. طبعا عند هذه النقطه لم يكن بحاجه لأن يكمل، لأني عرفتُ المغزى.
 استرسل: (عندكم في المعهد طلبه مشاغبين، يعملون لتخريب الحزب؛ واكيد انت ما تقبلين. نريد كم اسم).
اجبتهُ منكفئة على نفسي، وبحدةٍ لاتترك مجالاً لتكملةِ الحديث: ( انا ادرس مسرح، مو جاسوسيه!)
وسكتنا جميعا الى ان اوصلوني وجهتي.

وغادروا ناسفين مشروعي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق